إدارة الحياة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

آفاق بلا حدود - بحث في الهندسة النفس الإنسانية 22

اذهب الى الأسفل

آفاق بلا حدود - بحث في الهندسة النفس الإنسانية 22 Empty آفاق بلا حدود - بحث في الهندسة النفس الإنسانية 22

مُساهمة  Admin الجمعة مارس 25, 2011 10:41 am

التفكير
الإحساس والإدراك الحسي هي عمليات آنية تقريبا تتم في وقت قصير جدا. أما التفكير فيأخذ وقتاً أطول. والتفكير هو عملية (معالجة) للمعلومات. فهناك كم كبير من الصور، والأصوات، والإحساس، من الخارج عن طريق الحواس، ومن الداخل من الذاكرة. التفكير هو عملية تصنيف ومقارنة وتقييم لهذه المعلومات على ضوء نظام الإيمان والاعتقاد والقيم والمعايير الموجودة في العقل الباطن. وفي عملية التفكير تجري عملية تحليل المعلومات وتنسيقها في سلم الأهمية، ثم ترتيب الأنماط وبالتالي صياغة استراتيجية ينتج عنها تعبير لغوي أو سلوكي، كما تنتج عنها تأثيرات فسيولوجية في العضلات والتنفس، ولون البشرة، وتعبيرات الوجه.....الخ. ولكل شخص طريقته الخاصة في إجراء هذه العملية المعقدة التي نسميها التفكير. ومن هذا التعبير اللغوي والسلوكي والفسيولوجي يمكن معرفة استراتيجية التفكير والنظام التمثيلي للشخص. وبالتالي يمكن التعامل معه بطريقة أكثر فاعلية، وأكثر كفاية. إن النشاط الإنساني في نهايته هو تعامل مع الآخرين: بيعا، أو شراء، أو محاورة، أو تفاوضاً؛ في البيت، أو في المكتب، مع الزوجة والأولاد، أو مع الأصدقاء والأقارب، أو مع رئيس العمل، أو مع المجتمع. فإذا عرف الإنسان كيف يتعامل مع الآخرين بالطريقة الصحيحة المؤثرة، فإنه يمكن أقرب إلى النجاح.
التعبير
إن طريقة التعامل هذه مع الآخرين عن طريق استعمال أمثل للغة والتعبير هي ما ندعوه بـ "الاتصال Communication ". والحقيقة أن كلمة (الاتصال) لا تعكس المعنى الحقيقي للكلمة الإنكليزية Communication. فهذه الكلمة تعني فيما تعني فن التخاطب والبيان، وفهم الآخرين فهما عميقا، وإجادة التعبير عن الأفكار والآراء والمطالبة للوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من التأثير. وربما كانت كلمة( التبليغ) أو (البلاغة) أصدق وأوفى في التعبير عن معنى هذه الكلمة وخاصة إذا علمنا أن علم البلاغة العربية يشمل ثلاثة علوم: البيان، والمعاني، والبديع. وكل من هذه العلوم الثلاثة يتصل بالمعنى المقصود لكلمة Communication.
البلاغة تقع صفة للكلام، كما في قولنا " خطبة بليغة ورسالة بليغة"، وتقع صفة للمتكلم كقولنا خطيب بليغ، أو كاتب بليغ. وبلاغة الكلام هي مطابقته لمقتضى الحال. والبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى. وبلاغة المتكلم هي ملكه يقتدر بها على تأليف كلام بليغ.
ويتعلق علم المعاني بالإسناد والمسند والمسند إليه، ومتعلقات الفعل، وفصل الجمل وقصرها، والإيجاز والإطناب. ويتعلق علم البيان بالتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية. أما علم البديع فيتعلق بتحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة كالجناس والطباق والتضاد والتناسب والائتلاف وما إلى ذلك.
ربما يستثقل القارئ الخوض في علوم البلاغة، وهو ليس ما قصدنا إليه. إنما قصدنا إلى أن مصطلح (البلاغة) هو أقرب وأنسب من غيره لترجمة Communication. كذلك لابد من التأكيد على أن (البلاغة) هي غير(علم البلاغة). وفي الحقيقة لم يكن العرب في الجاهلية وصدر الإسلام يعرفون علم البلاغة، ولكنهم كانوا بلغاء. كذلك فإن البلاغة لا تعني الفصاحة بل لا تتضمن الفصاحة بالضرورة. ويمكن أن يكون الإنسان بليغاً بلهجته العامية التي يتحدث فيها في يومه وليلته.
إلا أن هناك ناحية أخرى يجب التأكد عليها، وهي أهمية التشبيه والاستعارة والمجاز في التأثير في الآخرين. فقد أجمع البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة أبلغ من التصريح، وأن التشبيه على سبيل الاستعارة أبلغ من التشبيه لا على سبيل الاستعارة، وأن الكناية أبلغ من الإفصاح بالذكر.
قال عبد القاهر الجرجاني صاحب " دلائل الإعجاز": ليس فيما تقدم من الأمور يفيد زيادة في المعنى لا يفيده خلافه، بل لأنه يفيد تأكيداً لإثبات المعنى لا يفيده خلافه. فليست فضيلة قولنا رأيت أسداً على قولنا رأيت رجلاً هو والأسد سواء في الشجاعة، أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفده الثاني، بل هي أن الأول أفاد تأكيداً لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني. وقد حفل القرآن الكريم كثيراً بالأساليب البلاغية من التشبيه والاستعارة والمجاز وغيرها.
اللغة الرمزية
إن موضوع القصص الرمزية Metaphors والتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية هي من الأساليب الأساسية في إيصال الأفكار إلى العقل الباطن للسامع. ذلك أنها تحتمل معاني متعددة تفتح للسامع خيارات متعددة لتحديد المعنى فينشغل عقله الواعي بالبحث عن المعنى، وبالتالي يسهل الوصول إلى العقل الباطن، وكأنها عملية تسلل لإيصال الأفكار إلى العقل الباطن. وقد اتبع " ملتون اركسون" هذا الأسلوب واشتهر به حتى أطلق عليه " أسلوب ملتون"، أو " أسلوب أر يكسون".
ومن وسائل هذا الأسلوب في الكتابة هو وضع خط تحت الكلمات، أو كتابتها بخط مائل، أو بخط سميك، وفي ذلك إيحاء بأهمية هذه الكلمات.
وهذا الإيحاء يصل إلى العقل الباطن بسهولة. كذلك يمكن استخدام النبرة الصوتية عند الكلام، كرفع الصوت عند كلمات معينة أو مقاطع معينة لزيادة التأثير في السامعين... " إن أساس النجاح في الحياة هو... الصدق"
تكون النبرة أعلى عند (الصدق). ومن ذلك الإشارات باليد وبالإصبع والرأس.
ويقول الموسيقيون: إنهم يضعون (نوطات) موسيقية معينة خلال العزف الموسيقي وأن المستمع لاينتبه لهذه (النغمات) لكنها تصل إلى العقل الباطن مما يزيد من متعة الاستماع إلى الموسيقى.
وتستخدم أساليب اللغة الرمزية كثيراً في الإعلانات للتأثير على العقل الباطن للمستهلكين، وإقناعهم بشراء المنتجات أو الخدمات.
إذن أساليب البيان هي وسائل لزيادة التأثير في السامع. ولكن عملية التخاطب والاتصال تنطوي على أخذ وعطاء. فكما أنك تتكلم وتحاول إيصال المعنى الذي تريد إيصاله إلى السامع فلا بد أيضاً من أن تفهم ما يقوله المقابل. ويمكنك تحقيق ذلك عن طريق إرهاف الحواس، ورصد الإشارات العينية، وفحوى الخطاب، والمعايرة، والبرامج العالية(راجع الفصول السابقة).
اللغة العليا وأسلوب ملتون
نجد في اللغة العليا وأسلوب ملتون طريقتين متقابلتين. ففي اللغة العليا نحاول سد النقص واستدراك العيوب اللغوية لإيضاح المعنى وفهم المقابل وتوسيع حدود الإدراك، أي تحري الدقة في الكلام. أما في أسلوب ملتون فحاول إشغال العقل الواعي، بإثارة علامات استفهام وغموض وفجوات، للوصول إلى العقل الباطن للتأثير فيه. ويتم ذلك باستخدام الاستعارة والمجاز والأساليب البلاغية الأخرى. ولكل من الأسلوبين منافع وفوائد. ويعتمد ذلك كله على مهارتنا في استعمالها.
المهارة في استخدام اللغة
وينفع استعمال أسلوب ملتون في العلاج النفسي، وفي الإعلانات، حملات الدعاية. أما اللغة العليا فتستعمل في التعامل مع الآخرين، وخاصة في اللقاءات، والاجتماعات، والمفاوضات، وعقد الاتفاقيات. لذلك فإن فن التعامل مع الآخرين يتطلب استخدام كلا الأسلوبين في الوقت المناسب والظرف المناسب.
أسلوب القرآن
لو كان ملتون اركسون يعرف العربية وقرأ القرآن لوجد ضالته المنشودة فيما حاول أن يصل إليه من استخدام اللغة في التأثير اللاشعوري في الإنسان، ذلك التأثير الذي يشبه السحر وما هو بسحر. فقد سحر القرآن العرب مؤمنهم وكافرهم على حد سواء. ولم يكونوا في بداية الأمر يعرفون سببا لذلك. وفي قصة الوليد بن المغيرة ما يكشف عن ذلك. فقد سمع الوليد شيئا من القرآن الكريم فتأثر به، ورق له. فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبون قريش كلهم، فأوفدوا إليه أبا جهل يثير كبرياءه واعتزازه بنسبه وماله، ويطلب إليه أن يقول في القرآن قولا يعلم به قومه أنا له كاره. قال:" فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا قصيده ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا. والله: إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه". قال أبو جهل: والله لا يرضي قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني أفكر فيه. فلما فكر قال:" إن هذا سحر يؤثر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن القرآن تحداهم بشكل قاطع( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون يمثله)(الإسراء:88). بل تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط( فأتوا بسورة من مثله)(البقرة:23). ولم يكن هذا التحدي موجه لقوم مشغولين عن اللغة لا يحفلون بها، بل كانت اللغة هي صناعتهم، ومدار حياتهم، وأخص جوانب ثقافتهم. ولكنهم لم يستطيعوا فعل شيء تجاه هذا التحدي السافر. فأقروا بعجزهم، واعترفوا بالأثر الغريب الذي يحدثه القرآن في سامعيه.
ولم تشأ الأجيال الأولى من المسلمين أن تبحث في أسباب تأثير القرآن على مستمعيه لانشغالهم بالرواية والفقه والنحو وغيرها من العلوم، ولتحرجهم في أن يقولوا في القرآن شيئا لا يعلمونه. وكان أول من التفت إلى هذه القضية هو الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه" دلائل الإعجاز" الذي حاول فيه استبانة سر الإعجاز القرآن، فكان بذلك أول باحث يطرق هذا الموضوع بشكل صريح. ثم تلاه الزمخشري في تفسيره "الكشاف". ولم يضف من جاء من بعد الجرجاني والزمخشري شيئاً ذا قيمة كبيرة إلى الموضوع، حتى جاء سيد قطب رحمة الله فتوصل إلى ما توصل إليه ملتون اركسون، كل بطريقته، دون أن يعرف أحدهما الآخر، وذلك في كتابه" التصوير الفني في القرآن".
يقول سيد قطب:" لقد كانت السمة الأولى للتعبير القرآني هي اتباع طريقة لتصوير المعاني الذهنية، والحالات النفسية، وإبرازها في صور حسية، والسير على طريقة تصوير المشاهد الطبيعية، والحوادث الماضية، والقصص المروية، والأمثال القصصية، ومشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، والنماذج الإنسانية.....كأنها كلها حاضرة شاخصة. بالتخيل الحسي الذي يفعمها بالحركة المتخيلة.
فما فصل هذه الطريقة على الطريقة الأخرى، التي تنقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية التجريدية؛ وتنقل الحوادث والقصص أخباراً مروية؛ وتعبر عن المشاهد والمناظر تعبيرا لفظيا، لا تصويراً تخيلياً؟ يكفي لبيان هذا الفضل، أن نتصور هذه المعاني كلها في صورتها التجريدية، وأن نتصورها بعد ذلك في الهيئة الأخرى التشخيصية:
إن المعاني في الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي، وتصل إليهما مجردة من ظلالها الجميلة. وفي الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان، وتصل إلى النفس، من منافذ شتى: من الحواس بالتخيل، ومن الحس عن طريق الحواس، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء. ويكون الذهن منفذا وحيدا من منافذها الكثيرة إلى النفس، لا منفذها الوحيد".
إذن أدرك سيد قطب أن للتعبير طريقتين: تجريدية وتشخيصية كما أسماهما. وأن الطريقة الأولى تخاطب العقل الواعي، والطريقة الثانية تخاطب اللاشعور أو العقل الباطن، وهذا ما عناه بقوله" وتصل إلى النفس من منافذ شتى....ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها لا منفذها الوحيد"
ولم يكن سيد قطب معنيا بدراسة علم النفس والعقل الباطن، ولكن قاده حسه المرهف، وذوقه الأدبي الرفيع، وانفعاله بالقرآن إلى أن يصل إلى أحد الأسرار الكبيرة في تأثير اللغة على تفكير الإنسان وسلوكه وشعوره. ومن الغريب أن الجامعات والمعاهد العلمية في البلاد العربية والإسلامية لم تعن بما فيه الكفاية بهذا الموضوع، كما أنها لم تعن بموضوع آخر لا يقل أهمية عنه، وهو أسرار التكرار في القرآن وأساليب الفروق في الآيات والتعبيرات القرآنية.
وجد سيد قطب أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية؛ وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور؛ وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة. فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية....فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخيل.
ويتوسع سيد في معنى التصوير.فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخيل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان. ويوشك سيد أن يقول بأن أسلوب القرآن يتضمن استعمال الأنماط الثلاثة الصورية والسمعية والحسية، وأن لهذه الأنماط نميطات دقيقة من الألوان والحركة والنغمة والجرس....إلا أن أهم ما اكتشفه سيد قطب هما مسألتين في غاية الأهمية: الأولى هي تناسق الأنماط الثلاثة في التعبير القرآني، والثانية هي الغموض والفجوات في القصص القرآني.
فأما تناسق الأنماط فهو ربط التصوير في القرآن بإيقاع موسيقى ناشئ من تخير الألفاظ، وربطها كذلك بالنمط الحسي. ويضرب مثلا لذلك في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)(التوبة:38) فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة " طنا " على الأقل من الأثقال ! ولو أنك قلت: تثاقلتم، لخف الجرس، ولضاع الأثر المنشود، ولتوارث الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ، واستقل برسمها. وفي قوله تعالى (وإن منكم لم ليبطئن )(النساء:72) ـ بتشديد الطاء والنون ـ فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها. وأن اللسان ليكاد يتعثر، وهو يتخبط فيها، حتى يصل ببطء إلى نهايتها. وفي حكاية قول هود: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلز مكموها وأنتم لها كارهون)(هود:28) فتحس أن كلمة (أنلز مكموها) تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق، وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدون إليه وهم منه نافرون! وكذلك الأمر في كلمة (عتل) في تمثيل الغليظ الجافي المتنطع. وكلمة( بمزحزحه) لإبراز صورة الزحزحة المعروفة كاملة متحركة. وكلمة( فكبكبوا) حيث يحدث جرسها صوت الحركة التي تتم بها. وهكذا يرتبط ا لنمط الصوري بالنمط السمعي بالنمط الحسي في تناسق فذ لينفذ إلى أعماق العملية الإدراكية فيكون له أقصى تأثير في الذهن.
وليس ارتباط الأنماط الثلاثة هذه العبارة الواحدة بالأمر اليسير في كلام البشر، لأن عملية الربط هذه تحتاج إلى أن يشترك العقل الواعي والعقل الباطن كلاهما في صياغة العبارة، وهو أمر لا يقع عادة في دائرة القدرة البشرية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يفكر بعقله الواعي وعقله الباطن في وقت واحد. وتشبه هذه القضية مسألة وجود متغيرين في معادلة رياضية واحدة. ويعرف الرياضيون بأنه لا يمكن حل مثل هذه المعادلة.
أما الأمر الثاني الذي أشار إليه سيد فهو الغموض والفجوات في القصص القرآني. ومثال ذلك ما جاء في قصة موسى مع العبد الصالح، في سورة الكهف عندما انطلق موسى مع فتاه( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)(الكهف:65) وتمضي القصة لتصف مفاجآت متوالية، لا نعلم لها سرا، وموقفنا منها كموقف بطلها موسى. بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة ولا ينبئنا القرآن باسمة، تكمله للجو الغامض الذي يحيط بنا. فاسم الرجل مجهول، والأحداث تبدو غامضة، فيكون الجو كله غامض مجهول حتى يأخذ السر في التجلي. فيعرف موسى سر تلك التصرفات الغريبة، ولكن الرجل يختفي ويمضي في المجهول، كما خرج من المجهول. والغموض يشغل العقل الواعي بالتفكير في معرفة المجهول فلا يستطيع هذا العقل الواعي، بسبب انشغاله، تمحيص ما يصله من معلومات فتنفذ هذه المعلومات إلى العقل الباطن لتستقر فيه وتفعل في التأثير على العواطف والسلوك.
أما " الفجوات" فيلا سيد أنها متبعة في جميع القصص القرآني على وجه التقريب؛ ويضرب لها مثلا في قصة يوسف. فالقصة قد قسمت ثمانية وعشرين مشهدا. ومن هذه المشاهد ما دار من حوار بين إخوة يوسف عندما أخذ عندما أخاهم الأكبرـ شقيقه ـ رهينه، باسم أنه سارق، ليبقيه عندهSadفلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين(80)ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون)(يوسف:80-82 ). وهنا ينتهي المشهد ويسدل الستار، لنلتقي بهم في مشهد آخر لا في مصر ولا في الطريق ولكن أمام أبيهم، وقد قالوا ما وصاهم به أخوهم دون أن نسمعهم يقولونه، إنما يرفع الستار مرة أخرى لنجد أباهم يخاطبهمSad قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)(يوسف:83). هذه الفجوة بين حوار أخوة يوسف في مصر وبين جواب أبيهم وما قالوه له تجبر القارئ أو المستمع على أن يملأها من عنده ليكمل تسلسل القصة، فينشغل فكره في كيفية مجيء إخوة يوسف، وتصور ما في نفوسهم ما مشاعر، تخيل ما قالوه لأبيهم. كل ذلك يفتح الطريق " لتسلل " المعاني المقصودة من القصة إلى العقل الباطن بطريقة إيحائية لها أبلغ الأثر في النفس.
لقد اعتمد ملتون اركسون على القصص الرمزية أو الخرافية، وعلى الاستعارة والتشبيه والمجاز للوصول إلى العقل الباطن. ولكن القرآن كتاب حق وصدق فليس فيه خرافة أو رمز خال من المعنى. لذا كانت القصص في القرآن على ثلاثة أنواع: الحوادث الواقعية، والأمثال المضروبة، والقصص المروية، ولا يتسع المقام هنا لتفصيل ذلك كله وننصح بالرجوع إلى كتاب سيد قطب " التصوير الفني في القرآن".
[justify]

Admin
Admin

المساهمات : 31
تاريخ التسجيل : 25/03/2011

https://almodarreb.rigala.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى